بقلم/أسماء الباشا
في عصر الثورة الرقمية المتسارعة، أصبح الهاتف الذكي امتداداً طبيعياً لحياة الملايين، بل صار بوابة إلزامية للعالم. لكن وراء هذا الاتصال الدائم، ظهرت ظاهرة مقلقة تُعرف باسم "العزلة الرقمية"، والتي تلقي بظلالها الثقيلة على المجتمعات، محوّلةً هذا الاتصال الظاهري إلى إحساس عميق ومؤلم بالوحدة. لقد تحولت الشاشات، التي صُنعت لتكون وسيلة للوصول، إلى حواجز تفصل الأفراد عن روابطهم الاجتماعية الحقيقية، لتُشكل في النهاية "قفص وحدة صامت" يحيط بالمستخدمين.
إن كثافة هذه الظاهرة تتضح جلياً في الأرقام المحلية. ففي مصر وحدها، تشير الإحصائيات (مثل تقرير "DataReportal" لعام 2024) إلى أن عدد مستخدمي الإنترنت وصل إلى حوالي 82 مليون مستخدم في بداية 2024، فيما بلغ عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي ما يقرب من 45.4 مليون مستخدم. هذه الأرقام تعكس أن جزءاً هائلاً، بل ومعظماً، من حياتنا الاجتماعية واليومية قد انتقل إلى الفضاء الافتراضي، مع تضحية مباشرة بالأنشطة الواقعية والتفاعل الأسري المباشر. وحين نعلم أن الفئة العمرية من 13 إلى 34 عاماً هي القوة المحركة لهذه الحالة الرقمية، ندرك أن الشباب والمراهقين هم الأكثر عرضة للتأثيرات العميقة لهذه الكثافة.
ثمن الاتصال المزيّف.. تآكل الصحة النفسية
لا يمكن فصل كثافة الاستخدام هذه عن تدهور الصحة النفسية. يؤكد خبراء علم النفس والاجتماع أن الاستخدام "المكثف" لوسائل التواصل الاجتماعي يرتبط بشكل مباشر بزيادة معدلات الاكتئاب والوحدة النفسية. السبب الرئيسي يكمن في آفة "المقارنة". فالدراسات المصرية المتخصصة (كدراسة منشورة في المجلة المصرية لبحوث الإعلام 2022) أثبتت وجود علاقة طردية بين الإفراط في استخدام تطبيقات مثل تيك توك وإنستجرام وبين الشعور بالاكتئاب لدى الشباب. إن التعرض المستمر لصور مثالية ومزيفة لحياة الآخرين يخلق ضغطاً هائلاً للمقارنة، ينتهي بتدني في تقدير الذات.
والأكثر إيلاماً هو مفارقة الوحدة رغم الاتصال. تشير الدراسات نفسها إلى أن زيادة استخدام المنصات لا تساهم في تقليل الشعور بالوحدة، بل قد تزيده، لأن هذا التواصل الافتراضي يفتقر إلى عمق العلاقات الواقعية. الفرد يشعر بأنه غير مرئي حقاً، وغير مُقدر لذاته الحقيقية، بل لصورته المُعدّلة خلف الشاشة.
الوحدة كتهديد صحي عالمي
هذا التحدي لم يعد مجرد مشكلة شخصية، بل تحول إلى قضية صحة عامة عالمية. وفي تحرك دولي ملح، أعلنت منظمة الصحة العالمية (WHO) في نوفمبر 2023 عن إنشاء لجنة جديدة معنية بـ "تعزيز التواصل الاجتماعي"، لمعالجة الشعور بالوحدة باعتباره تهديداً صحياً خطيراً. المنظمة أكدت أن الأفراد الذين يفتقرون للروابط الاجتماعية القوية هم أكثر عرضة لمخاطر الإصابة بالسكتات الدماغية والقلق والخرف والاكتئاب. وفي تقاريرها اللاحقة (منتصف 2024)، حذرت المنظمة من أن العزلة الاجتماعية قد تزيد من خطر الوفاة المبكرة بنسبة تصل إلى 32%.
إن التداعيات لا تتوقف عند الفرد؛ فهي تمتد لتشمل البنية الاجتماعية نفسها. فغياب "التواصل النوعي" داخل الأسرة يؤدي إلى تفكك الروابط الأسرية، ويقلل من فرص الحوار المباشر وتبادل الخبرات، مما يوسع الفجوة الجيلية وسوء الفهم. وعلى المستوى الإدراكي، فإن اعتياد الأفراد على سهولة التواصل الكتابي والاختفاء خلف الشاشات يسبب ضموراً في المهارات الاجتماعية الأساسية، كقراءة لغة الجسد وفهم السياق العاطفي المعقد. كما أن طبيعة المحتوى المتجدد باستمرار تُدرب العقل على "التشتت والانتقال السريع"، مما يضعف القدرة على التركيز العميق (Deep Work)، وهي مهارة جوهرية للتعلم والإبداع وحل المشكلات المعقدة.
الطريق إلى التوازن الرقمي الواعي
الحل لمواجهة العزلة الرقمية ليس في الابتعاد الكلي عن التكنولوجيا، بل في إدارة استخدامها بوعي ومسؤولية، أو ما يُسمى "التوازن الرقمي". هذا يتطلب خطوة واعية تبدأ بوضع حدود زمنية واضحة لاستخدام الشاشات وتجنب التصفح العشوائي، وإعطاء الأولوية للقاءات والتفاعلات الاجتماعية الواقعية على حساب الافتراضية. كما يجب تحفيز الروابط الأسرية بتحديد "أوقات خالية من الهواتف" أثناء التجمعات العائلية. ولا يغيب عن المشهد دور المؤسسات في توسيع نطاق برامج التربية الإعلامية والرقمية لتعليم النشء كيفية إدارة وقتهم الرقمي بمسؤولية.
وفي النهاية، تبقى التكنولوجيا مجرد أداة. مصيرنا لا يكمن في مدى اتصالنا بالإنترنت، بل في مدى اتصالنا ببعضنا البعض في الحياة الحقيقية. إنها معركة إرادة ووعي يجب خوضها لتحرير أنفسنا من "قيود السجن الافتراضي الصامت".