كتبت: هديل المزعنن
رغم مرور شهور طويلة على الهجمات الإسرائيلية التي استخدمت فيها قذائف الفسفور الأبيض في مناطق متفرقة من قطاع غزة ، ما تزال آثارها تشتعل في أجساد الناجين ، و في هواءٍ يحمل بقايا الدخان السام. هذا السلاح الذي تحرّمه الاتفاقيات الدولية ، لم يخلّف فقط جروحًا ظاهرة ، بل أورث أمراضًا مزمنة و تشوهات ولادية تهدد أجيالًا كاملة.
يُعدّ الفسفور الأبيض مادة حارقة شديدة السمية ، تشتعل فور ملامستها للأوكسجين و تخترق الجلد حتى العظم ، كما يسبب استنشاق دخانه تلفًا في الرئتين و اضطرابات في الجهاز العصبي. و قد حظرت اتفاقية جنيف و بروتوكولات الأمم المتحدة استخدامه ضد المدنيين ، إلا أن سكان غزة وجدوا أنفسهم مجددًا في مرمى هذا السلاح خلال حرب الإبادة الممتدة منذ عام 2023.
أتنفس الحرب حتى اليوم
في بيت متواضع في مخيم الشاطيء ، تقنط أم غسان التي لم تُصب مباشرة بالقذائف ، لكنها استنشقت دخانها الكثيف أثناء إخماد حريق قرب منزلها ، تقول:
" من يومها و أنا أختنق . . صدري صار يحرقني حتى لما أتنفس هواء عادي ، غير أنه صرت مصابة أزمة مزمنة نتيجة دخان الفسفور"
أم غسان تعاني من التهاب رئوي مزمن و تليّف جزئي في الشعب الهوائية ، وفقًا لتقرير طبي من مستشفى الشفاء. تضيف بحسرة: "الكل نجا من النار ، بس أنا النار بقيت جوا صدري”
أطباء الصدرية في غزة يؤكدون تزايد حالات مشابهة ، نتيجة تعرض المدنيين لجزيئات الفسفور المعلقة في الهواء و الماء.
طفلة ولدت من رماد الدخان
في مشهد مؤلم آخر ، تروي أم حكمة كيف أن ولادتها كانت مختلفة تمامًا ، تقول: “فجأة رموا علينا فسفور كأحد أساليب الاحتلال لاجبار السكان على النزوح ، كنا نحتمي بالبيت ، و الهواء مليان دخان خانق . . ما كنت أعرف إنه ممكن يأذي الجنين”
أنجبت الطفلة حكمة بتشوهات خلقية معقدة بالوجه و تشوه فى العينين (عيون بدائية) نتيجة إستنشاق أمها لدخان الفسفور و مخلفات الحرب ، بالإضافة إلى أن الطفلة بتم تغذيتها عبر أنبوب تغذية يصل للمعدة مباشرة لعدم وجود فك سفلى لتتمكن من الرضاعة الطبيعية.
بين التحريم الدولي و الصمت العالمي
يُحرم القانون الدولي استخدام الفسفور الأبيض ضد المدنيين ، بموجب اتفاقية جنيف الثالثة و البروتوكول الثالث من اتفاقية الأسلحة التقليدية (1980) ، التي تُلزم الأطراف المتحاربة بعدم استعمال المواد الحارقة في المناطق السكنية.
و رغم توثيق منظمات كـهيومن رايتس ووتش و العفو الدولية لاستخدامه في غزة ، فإن المجتمع الدولي اكتفى ببيانات “القلق” ، تاركًا الضحايا يواجهون تبعات حروقهم بصمت.
بين جرحٍ لا يلتئم و رئةٍ تختنق و طفلة وُلدت من رحم الدخان ؛ يبقى الفسفور الأبيض شاهدًا على جريمةٍ تتكرر بصيغٍ مختلفة ، و جسد الفلسطيني هو الميدان الذي تُختبر عليه كل محظورات الحرب.
و رغم مرور الوقت ، ما تزال غزة تحترق ببطء في جسد إنسانها ، و في ذاكرة العالم الصامت.