كتب / اسلام شرقاوى
“إن إيمان المرأة هو الحب ولا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم" أحرف من ذهب دونها فيلسوف الدراما بقلمه السحري، الذي جعله يكثر حاجز الزمن، ويهزم الموت ويلوذ بالخلود في عالم ملء بالظلام استطاع أن ينيره بكلماته الذهبية التي أثرت في الكثير من قراءة، وأصبحت شعاع نور يقود الناس نحو حرية الفكر، وحب الاطلاع.
مَن هو فيلسوف الدراما؟
أنه الكاتب العظيم توفيق الحكيم الذي ولد في يوم الأحد 9 أكتوبر عام 1898م في رحاب معشوقة الإسكندر الأكبر جزيرة فاروس، العاصمة التي استمرت ألف عام في حكم مصر، صاحبة الطبيعة الخلابة، والمناظر الساحرة، والمكتبة العظيمة والفنار الشاهق في طوله مثل الحكيم الشاهق في كتاباته على الرغم من دراسته للحقوق.
وهنا سؤال يطرح نفسه لماذا الحقوق؟
والإجابة ببساطة لأن والد الحكيم كان قاضيا في مدينة الدلنجات بمحافظة البحيرة، ويعد من أثرياء الفلاحين، كما أن أم الحكيم كانت سيدة تركية أرستقراطية ابنة أحد الضباط الأتراك المتقاعدين، وبالتالي لا بد أن ابن هذا الرجل، وهذه السيدة يدرس الحقوق، لما كان لها من قيمة أن ذاك قبل أن تصبح مهنة مثيرة للجدل في عصر الفاتورة الإلكترونية، والمهازل التي نراها حالياً.
كيف بدأت قصة الحكيم مع الكتابة؟
في يوم من الأيام قراء الحكيم كتاب عن الطلائعية (avant- garde) وتأثر به جداً، ونتيجة لهذا التأثر بدأ توفيق الحكيم في دراسة المسرح الذي كان يعد بمثابة شغله الشاغل، والفضل في ذلك يرجع لجورج الأبيض، ذلك الممثل اللبناني الذي أصبح أول نقيب للمثلين في مصر، وصاحب الريادة في تقديم العروض المسرحية في مصر والذي كان يحضر له الحكيم معظم مسرحياته، وربما كان ذلك السبب الذي جعل والد الحكيم يرسله إلى فرنسا لكي يبتعد عن المسرح حيث كانت هذه المهنة قديماً لا تلقي قبول من قبل العائلات الأرستقراطية.
بعد هذه الأحداث وغيرها من الاحداث المثيرة، عاد الحكيم وبداء رحلته في كتابة مولوده الأول أهل الكهف التي كانت أول مسرحية فنية تطل من نافذة القصص الديني في الدراما التمثيلية، عالج فيها الحكيم إشكالية الزمن ومعناه في علاقته بالبشر والحضارات، وطرح لنا الحكيم من خلال أهل الكهف سؤالاً فلسفياً خالداً.
وهو هل يستطيع الإنسان أن يقاوم الزمن بكل هيمنته وتداعياته ومساره المحدد الذي يسير فيه؟
وربما الإجابة على هذا السؤال صعبة جداً، لأن التغيرات التي تطرأ على الزمن هي التي تجعلنا نقف عاجزين عن الإجابة، أو ربما يستطيع كلا منا الإجابة على هذا السؤال بطريقته الخاصة وفقاً لقدراته ومعطياته.
اغلق الحكيم صفحة أهل الكهف وبداء في رحلته الجديدة عودة الروح والتي كانت بمثابة قنبلة موقوتة أن ذاك، حيث إنها تنبأت بثورة جمال عبد الناصر، وكانت تحمل في طياتها الكثير من الإسقاطات والتنبؤات. وبعدما عادة الروح كان لا بد للوعي أن يعود هو الآخر، وبالفعل خرجت رواية الحكيم عودة الوعي للنور وكانت إشارة فكرية للرئيس أنوار السادات، ورفض واضح للحركة الناصرية.
بدأ الحكيم يشق طريقة في الأدب ويرسم ملامح المجري الذي سيسلكه، لكي يجود علينا بأدبه العذب الذي أصبح بمثابة مذهب أدبي استطاع أن يترك أثر عظيم وعلامة بارزة في كل من تذوقه ونهل من عذوبته. ولقد تعددت الأعمال التي كانت كل واحدة منها تغرد منفردة بأفكارها وفلسفتها الخاصة، مثل يوميّات نائب في الأرياف التي أصبحت من الروايات الخالدة لأنها كانت الأولى من نوعها التي توضح الفرق بين عقلية المصري الفلاح، وبين الموظفين في السلك القانوني.
أيضا عصفور من الشّرق كانت إحدى روائع الحكيم، مثلها مثل أشعب، وحمار الحكيم، والرّباط المُقدس، وغيرها الكثير والكثير من الأعمال العظيمة التي كانت سبباً في خلود كاهن معبد الحب، الحكيم الذي استطاع بقلمه أن يدخل الأدب الدرامي دائرة الوعي العام بوصفه فرعاً من فروع الأدب العربي.
مالا نعرفه عن توفيق الحكيم.
بداء توفيق الحكيم يكتب باسم مستعار وهو "حسين توفيق" وهذا لأن عائلته كانت ترى أن الكتابة ليست مهنة جيدة، وأنها لا تعود على صاحبها بالنفع الكبير، وربما تكون سبباً في نكسته "وكسته" واحياناً ما تلقي به خلف القضبان، مثل الكثير من عظماء الأدب الذين حملوا علي عاتقهم القضاء على ظلامية العقول وتنويرها، فما كان جزاؤهم إلى أن ألقوا خلف القضبان، وربما كانت هذه الحجة المنطقية لعائلة الحكيم. لكنه لم يتوقف عن الكتابة، ولم يستمع إلى أحد، وتمرد على الجميع، واستمر في طريقة إلى أن أصبح واحداً من أبرز كتاب جيله وصار له عمود ثابت في الأهرام.
لم تقتصر إبداعات الحكيم على الأدب بل إنها امتدت إلى السياسة، وانتشرت تحليلات الحكيم السياسية كالنار في الهشيم في العالم العربي بأسره، وكانت مسرحياته الأولى تدور حولي أسئلة متعلّقة بتحرر المرأة، ومسرحيته "المرأة الجديدة" كانت نوعا من المحاكاة الساخرة لحركة "قاسم أمين" وربما كان هذا سبب شهرة الحكيم بأنه عدو المرآه.
وعلى الرغم من محاولاته العديدة لتغيير هذه الفكرة الملعونة التي ظلت تطارده حتى بعد وفاته، وكانت سبباً لانتقاده في العديد من المناسبات النسوية التي دائما ما تعج بالسباب والتهكم على كل من يعارض فكرة تحرر المرأة، التي تريد التنصل من دورها الفطري في الأمومة، والتربية، وتنافس الرجل في مهامه الشاقة، وهذا ما يوضح لنا سبب التدني الأخلاقي والتردي السلوكي الذي نشاهده في مجتمعاتنا الشرقية.
وأخيراً كتب توفيق الحكيم أكثر من 50 مسرحية جعلت منه رائداً ومؤسساً للدراما العربية الحديثة، وصاحباً لمدرسة المسرحية الذهنية التي تعتمد على الإسقاط والواقعية.
بمعنى أن قابلية تنفيذها في المسرح صعبة جداً لأن شخصيتها هي عبارة عن أفكار بداخل عقل الإنسان، وهذا ما جعل من الحكيم فيلسوفاً للدراما، وبالرغم من كل هذا العطاء لم يحصل الحكيم عل جوائز عديدة سوي جائزة الدولة في الآداب ووسام الفنون من الدرجة الأولى، وقلادة النيل، وقلادة الجمهورية، وجائزة الدولة التقديرية لإخلاصه للفن وللدراما.
وصدق الحكيم في قولة
“أما نحن فلا نريد أن نكون سوى بشر...
لنا جسم مرتو وقلب متقد وعقل متئد
أيتها الطبيعة الرحيمة لك أنت وحدك عمر الأبد
أما نحن فلا نريد غير عمر الندى
نهبط من السماء عند الفجر
ونصعد إلى السماء عند الضحى”
― توفيق الحكيم، أرني الله
وبالفعل صعدت روح الحكيم إلى السماء عند الضحى، وأفني جسده في الأرض، وبقيت كتاباته التي تحمل من نسمات روحه خالدة، وستظل خالدة، إلى أبد الآبدين.